في ذكرى غيابه الـ45 .. “الصّدر سحر ما فوق الغياب” ث
في 31 آب العام 1978 كانت حقائب السّيد موسى الصّدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين تحطّ وحدها في فندق “هوليداي إن” في روما، من دون أصحابها الّذين ثبتَ أنّهم لم يدخلوا الأراضي الإيطاليّة- روما تحديدًا- في ذلك اليوم، بل فقدَ العالم أثرهم في داخل الأراضي الليبيّة بعدما سافروا من لبنان في 25 آب من ذاك العام، للقاء الرئيس الليبي معمّر القذّافي بدعوةٍ رسميّة من الحكومة اللّيبيّة. واختفى الصدر مع رفيقيه حتّى يومنا، وعامنا الّذي يُعدّ العام الخامس والأربعين لذكرى غيابهم.
في كتابهما “الصّدر سحر ما فوق الغياب”، الصّادر عن دار زمكان في منتصف شهر آب الجاري، يروي الكاتب عبد الحليم حمود والصّحافي شادي منصور سيرة السّيّد موسى الصدر بأسلوب مغاير، ويسردان حكايا لم نسمع عنها من قبل في حياة الإمام. يمشيان معه في خطٍّ زمنيّ مستقيم، منذ ولادته ونشأته في منطقة “عشق علي” في إيران- كما ورد في الكتاب- حتّى وصوله إلى النّجف، وصولًا إلى حياته في لبنان.
الصّبيّ الحالم بالقيادة
يعرض الكتاب لنشأة الإمام الصّدر في مدينة قمّ مع تسعة إخوة وأخوات، وفي “بيت يتألّف من خمس غرف واسعة، جدرانها بيضاء، بلا زخارف أو لوحات أو صور، نوافذ وستائر فقط”. في ذلك البيت كان الصبي موسى يقفز على الحيطان ويتسلّق الأغصان العالية ويفرح بثياب الأعياد- الإسلاميّة والإيرانيّة- ومن هنا كان الصدر يعيش في بيت يجمع بين الثقافة العربيّة والفارسيّة.. حمل الصّدر هذا الإنفتاح على الثّقافات المتعدّدة الذي نشأ معه، إلى لبنان الّذي كان برأيه هو المحطّة الأنسب للبدء بالتغيير الّذي كان يحلم به فـ”لو لم يكن هناك لبنان، كان يجب علينا أن نخلق لبنان من أجل التغيير والإصلاح والعدالة ومن أجل الإنسانيّة جمعاء”.
كانت شخصيّة الصدر شخصيّة ديبلوماسيّة ومركّبة من كلّ ما جمعه وحفظه من مرحلة الطفولة وظروف النّشأة والبيئة ومن منزله المنغمس بالسياسة والشأن العام. من جهةٍ والده كان صدر الدين الصدر بن اسماعيل الّذي ارتبط اسمه بالنّهضة الأدبيّة في إيران والعراق، وكان قريبه “محمد حسن الصدر” رئيس وزراء العراق سابقًا، وعمّه “محمد مهدي” رجل الدّين وأحد أركان استقلال العراق، ومن جهة أخرى هو تلميذ “المحقّق الداماد” و”الإمام الخميني” و”العلّامة الطبطبائي” وغيرهم.
يعرض الكتاب لنشأة الإمام الصّدر في مدينة قمّ مع تسعة إخوة وأخوات، وفي “بيت يتألّف من خمس غرف واسعة، جدرانها بيضاء، بلا زخارف أو لوحات أو صور، نوافذ وستائر فقط”
لذلك نشأ الإمام في منزل وبيئة لم تخلُ من الضيوف ذوي الشأن الدّينيّ والسياسيّ والأدبيّ، وهذا ما ظهر تأثيره واضحًا في شخصيّته لاحقًا، هو الّذي جالس الرجال والنساء والصغير والكبير والأديب والشاعر والسّياسي ورجل الدّين، وكان يستمع إلى آراء الجميع من دون استثناء.
الصدر.. مراحل ومحطات
ووفق الكتاب “نضج الصدر أسرع من زملائه ومن هم مِن جيله، وبدأ ذلك يتبلور في شخصيّته اللّماحة والذّكيّة، فيُقال إن أساتذته كانوا يشيرون إلى أنّه تعلّم بوتيرةٍ أسرع من زملائه وإنّه كان واسع المعرفة نسبةً إلى سنّه الصغيرة. هو الّذي “كتب مقالًا في عمر الرّابعة عشرة بعنوان “إلى متى العذاب؟”، في جريدة استوار باللغة الفارسيّة ليشرح آلام وآمال الشعب الإيراني”.
يتناول الكتاب مراحل حياة الصدر وأبرز محطاتها ومنها أنه “في العام 1950 كان الصدر يدخل ويخرج بعمامته من كلّيّة الحقوق في جامعة طهران حتّى تخرّج منها ومعه إجازة في الإقتصاد السياسيّ، وعلى الرغم من أنّه رفض لاحقًا العمل بشهادته في مراكز عالية في السلك القضائيّ، كانت قد عُرضت عليه عدّة مرّات، إلّا أنّه كان عنيدًا متمسّكًا برغبته في تحصيل شهادة أكاديميّة”.
كتب مقالًا في عمر الرّابعة عشرة بعنوان “إلى متى العذاب؟”، في جريدة استوار باللغة الفارسيّة ليشرح آلام وآمال الشعب الإيراني”
يتابع الكاتبان عبدالحليم حمود وشادي منصور: “هذا بالتّحديد ما يستدعي علامات الإستفهام ويفتح الباب لاستكشاف الغموض والسّحر والذّكاء في شخصه. فهو لم يتلقَّ العلوم الدينيّة والحوزويّة بإرادته ورغبته التّامتين، بل كان والده المحفّز الأوّل على ذلك في فترة حكم الملك السابق رضا شاه (بهلوي) حيث كانت الضغوطات والعرقلات والقيود السياسيّة تباغت رجال الدّين ورسالتهم، وكذلك الراغبين بدارسة الحوزة لخدمة الرسالة ذاتها. فوقع الإختيار على موسى الصّدر ليقوم بواجبه والإلتحاق بالسّلك الدّيني والحوزويّ الّذي كان مهدّدًا ولم يبقَ من طلابه إلّا 300 طالب، بعدما كان عددهم بالآلاف”.
لذلك قال السيّد موسى: “اخترت أن أبقى في هذا الخطّ، لشعوري بأنّ رجل الدين الشيعيّ لديه إمكانيّات للقيام بالدّور القياديّ لخدمة مجتمعه أكثر وأفضل”.
الحضور رغم الغياب
لم يقدّم الصّدر يومًا نفسه بصورة الشيخ المعمّم التقليديّ ولا بصفته كرجل دين، يقول الكتاب، “بل قام بكلّ ما قام به من خلال استغلاله لمكانته كرجل دين يملك مساحةً أوسع وفرصة أكبر لإحداث تغيير. فكان يسأل ويخالف كلّ ما يثير شكوكه في النّصوص والعقيدة. وعلى عكس الجميع، لم يكن يومًا رجل الدّين الّذي يجلس في غرفته المغلقة ليقرأ الكتب ويكتب غيرها، بل كان في الخارج، بين النّاس، يتعرّف إلى نظرية النّسبيّة لآينشتاين، يقرأ في الفلسفة والحقوق والإقتصاد والسياسة، يدقّ الجدران، ويغيّر الواقع بالكلمة. وهذا تحديدًا ما جعله باقيًا ومحسوسًا وحاضرًا برغم غيابه”.
يتابع الكتاب عرض أبرز المشاريع والإنجازات التي قام بها الصدر ومنها “في العام 1962 “وضع الصدر الحجر الأساس لمهنيّة جبل عامل، لينطلق فيها في العام الدراسي 1969- 1970″، والتي كان لها دورٌ بارزٌ في تأطير طاقات الشباب في الأرياف المحرومة والمهمّشة. “في الثّامن من حزيران العام 1963 يشارك في قدّاس أُقيم في مدينة صور عن روح قداسة البابا يوحنّا الثالث والعشرين”، ويُدعى بعدها لحضور مراسم تتويج قداسة البابا بولس السادس، “وكان رجل الدين المسلم الوحيد الحاضر”.
في العام 1967 أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون إنشاء “المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى” بعدما عقد الإمام الصدر “مؤتمرًا صحافيًّا بيّن فيه الأسباب الموجبة لتنظيم الطائفة الشيعيّة”. عاش الإمام بعدها في بيت فوق مبنى المجلس الشيعيّ الأعلى الذي بناه في منطقة الحازميّة، ثمّ بدأ بتوسيع مشاريعه في لبنان، فشيّد مبنى باسم “مدينة الزهراء الثقافيّة والمهنيّة” في خلدة. كما شيّد موسّسات ثقافيّة واجتماعيّة ومهنيّة في منطقة الوردانيّة، وأقام المبرّات والمستشفيّات والمدارس في مختلف المناطق، مثل بعلبك وصور وبيروت وفي منطقة الجنوب.
في لبنان وبين المغتربين
عن علاقة الصدر بالمغتربين والجاليات اللبنانية في الخارج يستعرض الكتاب أبرز المحطات وفيها: “لم يحصر السّيد موسى رؤيته ورغبته بالتغيير في بقعة جغرافيّة واحدة، فتراه يذهب إلى أفريقيا العام 1967 ليهتمّ بشؤون الجالية اللبنانيّة هناك، ويلتقي الرئيس العاجي والرئيس السنغالي آنذاك، ويقدّم “باسم الجالية اللبنانيّة مساعدة رمزيّة للأيتام في السنغال”.
في العام 1967 أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون إنشاء “المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى” بعدما عقد الإمام الصدر “مؤتمرًا صحافيًّا بيّن فيه الأسباب الموجبة لتنظيم الطائفة الشيعيّة”
“تراه يتّجه إلى فرنسا في العام التالي 1968 ليلقي محاضرة بعنوان “الشيعة الإماميّة” في جامعة ستراسبورغ. ثمّ تراه ينتزع صورة رجل الدين التقليديّ من أذهان طلّاب الجامعة الأمريكيّة في بيروت ليحاضر بهم في المسائل العلميّة، مستشهدًا بالأمثلة المعاصرة وكبار العلماء والمفكّرين. وتراه يحلّ ضيفًا في بيت جمال عبد الناصر ويشيّعه الأخير إلى أمام باب سيّارته “متمنّيًا عليه أن يمدّد زيارته أسبوعًا آخرًا للإحتفاء به”. ثمّ يزور “الإتحاد السوفياتيّ” ويقيم الصلاة في جامع “موسكو” ويخاطب الآلاف الحاضرين بأحوال الشرق الأوسط وعن الإعتداءات الإسرائيليّة على المنطقة”.
الصدر والجنوب
عن المرحلة الأخيرة قبل تغييبه يشير الكتاب إلى أن الإمام الصدر كرّس وقته وجهده للدفاع عن الجنوب اللبنانيّ الّذي عاش فترة قاسية جرّاء الإعتداءات الإسرائيليّة، وحاول دائمًا ربط المجتمع اللّبناني بخيط واحد يجمع كلّ المناطق والأديان والطوائف.
ويذكر الكتاب أن الصدر طالب الدولة اللبنانيّة في مطلع السبعينيّات بتسليح المواطنين وتدريبهم للصمود بوجه الإعتداءات. من بعدها “دعا إلى إضراب سلميّ وطنيّ عامّ شمل لبنان بمناطقه كافّة، تضامنًا مع فكرته الداعية إلى وقوف كلّ لبنان مع جنوبه”. وصولًا إلى العام 1974 حيث “أقسم مئة ألف شخصٍ معه في مهرجان بعلبك على عدم الهدوء، حتّى لا يبقى محروم أو منطقة محرومة في لبنان، فكانت النتيجة ولادة حركة المحرومين”.
أيضاً يسلط الكتاب الضوء على جهود الإمام الصدر خلال الحرب الأهلية بالقول: “لم يكفّ الإمام الصدر عن محاولة تهدئة الداخل اللبنانيّ جراء الحرب الأهليّة والإعتداءات الإسرائيليّة اللّبنانيّة، فتارةً كان يعتصم ويضرب عن الطعام كما حدث في 27 حزيران 1975 حيث اعتصم في “مسجد الصفا” في الكلّيّة العامليّة في بيروت، وتارةً يدعو إلى الجهاد كما حدث عند اندلاع حرب رمضان، وتارة أخرى يطلق ما سُمّي بـ”وثيقة المثقّفين” الّتي وقّعت عليها 192 شخصيّة من قادة الرأي والفكر في لبنان والمؤيّدين لحركة الإمام الصدر.
يصف عبد الحليم حمود وشادي منصور في كتابهما “الصّدر سحر ما فوق الغياب” الإمام الصدر أنّه شخصية “براغماتيّة”. وبالأحرى، هو شخصيّة تتخطّى التصنيف لأنّه هو بنفسه كان متخطّيًا ومتجاوزاً كلّ أيديولوجيات العالم، فاستطاع خلق أيديولوجيا خاصّة به. وهي ببساطة، أيديولوجيا قائمة على تفادي الصدام، وتجنّبًا لذلك يلجأ إلى الحوار مع أولئك الّذين لا يتفقّ معهم والعكس كذلك. لأنّه مدرك أنّ الحوار وحده قائم على استيعاب الآخر بدلًا من مهاجمته. وهذا ما كان ينقص العالم، ولذلك لم يكن موسى شخصيّة متوقّعة، ولذلك كان ساحرًا طوال الوقت.