أخبار لبنان

تكية دمشق والنسب الحقيقي لها

تكيّة دمشق تُنسبُ خطأً لسليمان القانوني
كبير التشكيليين السوريين “ناجي العبيد”: التكيّة تعبّر عن روحي
عامر فؤاد عامر
يدخلها الزائر اليوم فيجدها طريقاً طويلة الامتداد، على جنباته محلاتٍ تتوازع مهناً كثيرة؛ كصناعة الأعواد، وصناعة القش، والأرابيسك، وتجارة الأحجار الكريمة، والفضيّات، واللوحات التشكيليّة … ومنذ لحظة وطئ قدمكَ في مدخل التكيّة، ستبدأ ومن دون شعور بجني راحةٍ غيرِ متوقعةٍ، تحملها لكَ روحُ المكان، الذي ينسجم مع حالة من الارتقاء أرادها أجدادنا بأفكارهم البناءة، لتكون مكاناً للعلم والتعلّم، والصفاء الروحي والإنساني، خارج أسوار المدينة، وبعيداً عن ضجيجها، وعلى الرغم من اللَبس الحاصل في اسم التكية بنسبها لسليمان القانوني، إلا أنّ من يبحث بدقةٍ عن تاريخ المكان، سيعلم فوراً بأنّها أقدم من هذا العهد بكثير، لا سيّما وأنّ آثار المكان تدل على ذلك، واليوم بقي من هذه المنارة شكلها الرفيع الذي يضمّ الكثير من الأبنية، والإضافات التي تحمل تواريخاً متلاحقة كرّستها حقب زمنيّة تلائمت ومراحل الحكم التي جاءت الشام منذ القرن الهجري الأوّل.
وما يلفت الانتباه اليوم بالرغم من هذا التعدّد الكبير من إضافات العمارة على التكيّة، وتنوّعها، هو أنّ أهل المكان حافظوا على شكله قدر المستطاع، فبقي شاهداً يقدّم للعين جماله التاريخي وحنين قِدمه وأصالته، وعن العلاقة بالمكان حدّثنا الفنان التشكيلي ناجي العبيد (رحمه الله، توفي منذ فترة قريبة) الذي يملك في سوق التكيّة مرسمه الخاصّ يعرض من خلاله نشاطه الفني ويقدّمه ذوقاً رفيعاً للسائح منذ العام 1947 ؛فقال: ” أنا عضو مؤسس في نقابة الفنون في دمشق وهويّتي تحمل الرقم (4) وهذا المكان يعبّر عن روحي وعن ارتباطي التاريخي به، فلا زلت أذكر اليوم الأوّل الذي امتلكت فيه المكان، وكيف عُرض عليّ أنّ أجعله مرسمي الخاصّ لأتواصل به مع الناس الزائرة لهذا السوق العريق، الذي يجسّد جزء من تاريخ الشام العابق برائحة الياسمين والجوري”. وعن الجوائز والتكريمات التي حملت حالة تعريف عن شخصه الكريم من خلال لوحات وجدناها معلقة على جدران المرسم أضاف: “كرّمني الرئيس الراحل حافظ الأسد بمنحي شهادة تقديرٍ والميداليّة الذهبيّة، ولديّ ميداليّة فضيّة من بنك الرافدين بالبينالي العربي الأوّل في بغداد عام 1974، وأيضاً الميداليّة الفضيّة مع شهادة تقدير من مديريّة معرض دمشق الدّولي، وأنا الوحيد من فناني سورية له لوحة اقتنتها المكتبة الوطنيّة في باريس، والوحيد في العالم العربي قُدّمت عن أعماله أربع أطروحات لنيل شهادة الدكتوراه في كلّ من جامعات (لينينغراد- بوزار- القاهرة – تونس)”.
الحال الذي آلت إليه التكيّة هو حالٌ تعريفي عن هويّة المكان بصورةٍ تراثيّةٍ، وموقع أثري جاذب لأبناء البلد وللسائح الأجنبي، ويؤكّد مالكو الحوانيت والمحلات التي تُعنى بالمهن التقليديّة بأنّ الظروف التي تمرُّ بها البلد قد أرهقتهم، وبدّلت من بعض العادات، فمثلاً لم تعدّ هذه المحلات تفتح في وقت مُبكر كما كانت سابقاً، والبعض لجأ للبحث عن منافذ لكسب الرزق من جديد، في حين كان سوق التكيّة يفيهم ما أرادوه من كسبٍ مادّي، وأيضاً تبدو حركة الزّوّار في السوق خفيفة نوعاً ما مقارنةً بالماضي، وعلى الرغم من ذلك يبقى الأملُ واعداً، فهناك رغبةٌ متجدّدةٌ لديهم في المحافظة على تقاليد المكان، وتقاليد الصناعة اليدويّة، فالأبناء يرثون ما حمله أبائهم وأجدادهم، ويحافظون على ما كسبوه من هذه الحرف، ويأملون بأنّ الأيّام القادمة ستكون أفضل بكثير.
تشتمل التكيّة التي تقع في منطقةٍ تابعةٍ للمرجة في دمشق أبنيةً كبيرةً، وفيها مطبخ، ومكتبة، ودورة مياه، ومُستحم، ولمعظمها أسقف على شكل قباب بحجوم متنوّعة، فحجرة الدّرس لها قبّة كبيرة، وحجرات سكن الدّروايش قبابها متوسطة في الحجم والارتفاع، بالإضافة لانتشار المدافن في زواياها، وهي مدافن خاصّة بالدّراويش وغيرهم، وتنتشر كلّ هذه المباني وغيرها على مساحة تقدّر بإحدى عشر ألف متراً مربّعاً.
بابان اثنان للتكيّة شمالي مغطّى بقبّة صغيرة تحملها عدّة أعمدة، وجنوبي يتميّز ببابه المصنوع من الخشب والحديد، يصل بينهما طريق مرصوف بالحجارة، وتنتشر على جانبيه أشجار الصنوبر والصفصاف وغيرها، وكلّ هذا المشهد يقع على كتف نهر بردى الشرقي، استطاعت هذه التكيّة أن تحافظ على خصوصيّة وروحانيّة يتلمّسها من يقصدُ زيارتها والعابر منها، وكأنها نفقٌ تاريخيٌّ يسري بزائره في رحلةٍ تذكّره بالعديد من الأزمنة والذكريات المتلاحقة، ويشحنه بالراحة والاسترخاء والطاقة المتجددة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى